
“الدوارة”.. من لهطة الشواء إلى أفق الفوضى
هبة بريس – عيد اللطيف بركة
في مشهد يبدو كما لو أنه اقتُطف من قصة غريبة سريالية، يعاين المغاربة هذا العام، خصوصًا في المدن الكبرى، تزايدًا غير مسبوق على “الدوارة”، ذلك المصطلح الجديد الذي بات يلوح في أفق الفضاء الإلكتروني، ليُغرق الفضاءات الرقمية بالحديث عنها.
ففي بلد يمر بظروف اقتصادية صعبة، حيث يزداد تراجع القطيع الوطني من الأغنام بسبب ضعف التساقطات المطرية لسبع سنوات عجاف ، تجد بعض الفئات تتسابق على شراء “الدوارة” أو ما يُعرف شعبياً بشواء ” الفاد” بأسعار تُعتبر خرافية، تصل أحياناً إلى 700 درهم، وهو رقم قد يتجاوز أحياناً ثمن “حولي” في مفارقة مذهلة أثارت سخط وغضب الكثيرين.
“عيد” أم “دوارة”؟
كان عيد الأضحى في المغرب وما زال مناسبة دينية واجتماعية تتسم بطقوسها الخاصة من التضحية والاحتفال، لكن هل تحول هذا الطقس إلى لعبة مرهونة فقط بالإبهار الاجتماعي؟ هل أصبح الشواء غاية في حد ذاته، بعد أن أصبح أضحية العيد في بعض الأحيان شيئًا ثانويًا؟ هنا تكمن المفارقة الحقيقية، إذ من جهة، تتحدث مواقع التواصل الاجتماعي عن “لهطة” الشواء كأحد طقوس الاحتفال، في الوقت الذي كانت فيه المأساة على الأرض أن “الحولي” نفسه لم يعد في متناول شريحة واسعة من المغاربة، وهو ما دفع الحكومة إلى إصدار تعليمات مشددة بخصوص ضبط الأسواق.
مفاجأة أخرى تتمثل في حملة السلطات المحلية التي شنتها ضد أسواق الأضاحي في محاولة لإيقاف هذه الظاهرة، بعد أن باتت الأسواق تعج بالفوضى، فلا شيء يُعبّر عن هذه الفوضى أفضل من انقضاض البعض على “الدوارة” بأثمانٍ تُفوق العقل، في الوقت الذي يعاني فيه مواطنون من غلاء المعيشة، ومع ضعف الدعم للأسر التي بالكاد تجد قوت يومها، لا أحد يسأل نفسه، لماذا يندفع البعض بهذه الطريقة غير المنطقية لشراء “الدوارة” بينما هم يعانون من أزمات اقتصادية كبيرة؟.
هل أصبح الشواء “عبادة”؟
ما يثير الدهشة أكثر هو ربط هذا السلوك، الذي كان جزءًا من عيد الأضحى، بحالة من التقديس الاجتماعي، ففي زمن يشتكي فيه الجميع من ارتفاع الأسعار، أصبح “الشواء” سلوكًا احتفاليًا، وإنْ كان ثمنه باهظًا للغاية، وتحوّل الشراء المتهور لـ”الدوارة” إلى نوع من الإثبات الاجتماعي: “ها أنا ذا، عيدتُ على طريقتي”. التهاتف على هذا النوع من الشواء أصبح أشبه بطقس ديني جديد، لا يعير اهتمامًا لوضع المواطن أو للأوضاع الاقتصادية التي لا ترحم، وهذا ما جعل العديد من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي يتساءلون، هل أصبح “الشواء” في المغرب أهم من مصالح الناس وحاجاتهم الأساسية؟.
من جهة أخرى، يتفاقم الجدل عندما يتسلل إلى المعادلة الجديدة فكرة “الجهل المقدس”، التي تجعلك تتساءل عن قيم هذا المجتمع وأولوياته، هل الفقر في البلد قد وصل إلى مرحلة القبول بهذا العبث؟ كيف يمكن تفسير أن العديد من المغاربة يُستنزفون في شراء “الدوارة”، في حين أن ثمنها يمكن أن يُحسن وضعًا اقتصاديًا كاملاً لعائلة فقيرة؟ بل إن بعض المعلقين ذهبوا إلى وصف هؤلاء بـ “لهاط الدوارة”، في إشارة لمدى تقديسهم لهذا الطقس، الذي يبدو أنه أصبح أكثر أهمية من المعاني الاجتماعية والدينية التقليدية.
أزمة القيم أم أزمة أسعار؟
الأزمة التي يعيشها المغرب اليوم ليست فقط أزمة اقتصادية، بل هي أزمة قيم، أزمة وعي، وأزمة تحوّل في أولويات الشعب، ففي الوقت الذي تدعو فيه السلطة إلى ترشيد الاستهلاك، نجد البعض يصرّ على أن العيد لا يكتمل إلا بشراء “دوارة”، حتى ولو كان ذلك على حساب قوت يومهم، الفئة الأكبر من المواطنين لم تستوعب بعد أن الرفاهية التي يبحث عنها البعض في هذا “الشواء” قد تكون على حساب الطبقات الفقيرة، ففي مشهد غرائبي، تجد البعض يتسابق لشراء هذا المنتج الرخيص الثمن، وهو يظن أنه يحقق “المجد” الاجتماعي عبر منصات مثل “فيسبوك”، دون أن يدرك أن هذا التصرف ليس إلا حلقة في سلسلة من التدهور الاجتماعي.
إن الأزمة التي يعاني منها المواطن المغربي اليوم هي أزمة ذات طابع متعدد الأبعاد، بداية من غلاء الأسعار، مروراً بانتشار الفوضى في الأسواق، وصولاً إلى تلك العادة الجديدة التي تجعل من “الدوارة” نوعًا من العبادة الاحتفالية، وإذا كان هناك من مخرج لهذه الأزمة، فهو في البداية يبدأ بالتفكير العقلاني وإعادة النظر في أولويات المجتمع المغربي في هذا العصر المزدحم بتناقضات غير مفهومة.
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على Telegram
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على X