حجم الخط:

هبة بريس – عبد اللطيف بركة

تعد محاربة الفساد ورشًا استراتيجيًا دائمًا يستمد قوته من الرؤية الملكية الراسخة التي تجعل من دولة الحق والمؤسسات أساسًا للحكم الرشيد. فمكافحة هذه الظاهرة ليست إجراءً مرحليًا أو استجابةً ظرفية، بل مسارًا متواصلًا لترسيخ قيم الشفافية والنزاهة والمساءلة في تدبير الشأن العام.

ويقتضي هذا الورش الوطني تضافر جهود مختلف الفاعلين والمؤسسات من أجل إرساء ثقافة المسؤولية وربطها بالمحاسبة، بما يضمن تعزيز الثقة بين المواطن والدولة، وترسيخ مقومات التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.

فقد شهد المغرب خلال الأسابيع الأخيرة تطورًا لافتًا في مشهد مكافحة الفساد، بعد إعلان رئاسة النيابة العامة عن توقيف 407 أشخاص في قضايا مرتبطة بالرشوة واستغلال النفوذ. يأتي هذا التطور في وقتٍ يتزامن مع احتجاجات متواصلة يقودها جيل الشباب المغربي المعروف بـ”جيل زد 212″، الذي خرج إلى الشوارع للمطالبة بإصلاحات جذرية في مجالات التعليم والصحة ومحاربة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة.

– فساد متجذر وإرادة سياسية متجدّدة

يُعدّ الفساد الإداري والمالي أحد أبرز التحديات التي واجهت المغرب لعقود، رغم تبنّي الحكومات المتعاقبة خططًا واستراتيجيات لمحاصرته. إلا أن إعلان رئيس النيابة العامة هشام البلاوي عن هذه الحصيلة الكبيرة من الموقوفين يشير إلى محاولة جادّة لإعادة الثقة في مؤسسات الدولة.

فالحكومة انضمت إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وأقرت إستراتيجية وطنية تهدف إلى تعزيز الشفافية، وإحداث فرق متخصصة في الجرائم المالية، وسنّ قوانين لحماية المبلّغين والشهود، وهي خطوات تُظهر وعياً مؤسسياً بخطورة الظاهرة.

لكن في المقابل، يرى بعض المراقبين أن نجاح أي حملة لمكافحة الفساد لا يكمن في عدد الموقوفين، بل في قدرة الدولة على بناء منظومة وقائية شاملة تمنع إنتاج الفساد من جذوره، عبر إصلاحات في النظام الإداري والتربوي والاقتصادي، وتكريس مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.

– جيل “زد 212”: صوت جديد يطالب بالعدالة الاجتماعية

ما يميّز الحراك الحالي في المغرب هو بروز جيل جديد من المحتجين، أغلبهم من الشباب الذين وُلدوا في عصر الرقمنة والانفتاح على العالم.

هذا الجيل، الذي يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة للتعبئة والنقاش، تجاوز المطالب الفئوية التقليدية ليطرح قضايا بنيوية مثل الحق في التعليم الجيد، والرعاية الصحية، والشفافية الحكومية.

وبينما تواصل الحكومة الدعوة إلى الحوار، يرى كثير من النشطاء أن الوعود الإصلاحية فقدت بريقها في ظل تدهور الثقة بين الدولة والمجتمع.

– الفساد كأزمة عربية ممتدة

تتجاوز أزمة الفساد حدود المغرب، إذ تُعدّ المنطقة العربية من أكثر المناطق تضرراً من هذه الظاهرة. ففي سوريا، أدى الفساد البنيوي إلى تآكل مؤسسات الدولة خلال الحرب. وفي فلسطين، تعرقل شبهات الفساد جهود الإعمار والإدارة في ظل الاحتلال والانقسام السياسي. أما في السودان، فقد كان الفساد أحد العوامل التي عمّقت أزمته السياسية والاقتصادية. وحتى في دول خارج الإقليم مثل أوكرانيا، فإن الفساد كان تحدياً بنيوياً يوازي صراعها العسكري والسياسي.

من هنا، يمكن القول إن الفساد لم يعد مجرد مشكلة إدارية، بل أزمة حوكمة تمسّ جوهر العقد الاجتماعي بين الشعوب وأنظمتها.

– بين الإصلاح والاحتواء

تبدو السلطات المغربية اليوم أمام مفترق طرق حاسم:
إما أن تُترجم هذه الحملة إلى مشروع وطني طويل الأمد للإصلاح المؤسسي، أو أن تتحوّل إلى خطوة ظرفية لاحتواء الغضب الشعبي المتصاعد.

فالمغرب يمتلك من المقومات القانونية والبشرية ما يؤهله لأن يكون نموذجًا في الشفافية داخل العالم العربي، لكن ذلك يتطلّب إرادة سياسية متواصلة، واستقلالاً فعلياً للسلطة القضائية، وانفتاحاً على طاقات الشباب بدل التعامل معهم بوصفهم تهديداً.

0 تعليقات الزوار

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الموقع

اترك تعليقاً