من النقد الذاتي إلى التبخيس الجماعي: أزمة وعي في الخطاب المغربي

حجم الخط:

بقلم: أنس زيزي – باحث أكاديمي

في ظل التحولات العميقة التي يعيشها المغرب، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، يطفو على سطح النقاش العام خطاب آخذ في الانتشار بشكل مقلق: خطاب التبخيس؛ إنه خطاب لا يكتفي بانتقاد الأوضاع، بل يذهب أبعد من ذلك إلى نفي كل إنجاز، واحتقار كل مجهود، والتشكيك في كل مبادرة.

في المقابل، يغيب النقد الذاتي، الذي يُفترض أن يكون قاعدة أساسية في أي مجتمع ديمقراطي يسعى للإصلاح، ويحل محله تيار من العدمية اللفظية التي لا تُنتج وعيًا، ولا تفتح أفقًا، بل تسجن المواطن في دوامة من الإحباط واليأس.

*النقد الذاتي … فنّ غائب*

لم يكن النقد الذاتي يومًا موقفًا عدائيًا من الذات أو المجتمع، بل هو فعل حضاري ينبني على الجرأة في الاعتراف بالخطأ، والرغبة في الإصلاح. في مغرب ما بعد الاستقلال، طُرح النقد الذاتي كمبدأ سياسي داخل الأحزاب، وساهم وإن جزئيًا في تطهير بعض الممارسات، أو على الأقل مساءلتها.
أما اليوم، فقد تم تفريغه من مضمونه، وأضحى يُنظر إليه باعتباره “ترفًا فكريًا” أو “خطابًا نخبويا لا يُجدي”، لتحلّ مكانه موجة تبخيسية لا تميز بين نقد السياسات ونقد الوطن نفسه.

*التبخيس… جلد الذات بلا وعي*

التبخيس، كما يظهر في الخطاب الإعلامي أو على مواقع التواصل الاجتماعي، ليس فقط انتقادًا حادًا، بل تصفية شاملة لكل ما هو قائم. يتم اختزال المغرب في فشل مدرسي، فساد سياسي، غلاء معيشة، وبطالة متفاقمة، دون الاعتراف بأي جهود أو إصلاحات، ولو جزئية.
يُختزل كل شيء في عبارات مثل: “ماكاين والو”، “كلشي فاسد”، “المغرب ما غادي يبدل والو”، وهي جُمل تُرَدَّد بشكل يومي، وتتحول إلى قناعة جماعية قاتلة لكل حس إصلاحي أو مسؤولية مواطنية.

*مجتمع محبط، بلا ثقة*

عندما يصبح الخطاب العام مشبعًا بالتبخيس، يفقد المواطن إيمانه بالمؤسسات، ولا يرى جدوى من الإصلاح أو المشاركة. فتسود اللامبالاة، أو ما يُعرف بـ”العزوف السياسي”، وتتفشى ثقافة “الهروب” عبر الهجرة أو الانغلاق في الذات.
وهنا تكمن خطورة هذا المنزلق: ليس في التعبير عن السخط، بل في تحويله إلى عقيدة عدَمية لا تؤمن بالإصلاح، ولا تثق في أي إمكانية للتغيير.

*ما العمل؟ العودة إلى النقد الذاتي*

الحل لا يكمن في إسكات الغضب أو تجميل الواقع، بل في إعادة الاعتبار للنقد الذاتي العقلاني:
نقد يعترف بالمشاكل، لكنه يبحث في أسبابها.
نقد يواجه الفساد، لكنه لا يشيطن الوطن.
نقد يرفض التبعية، لكنه لا يختبئ خلف “نظرية المؤامرة”.
نقد مسؤول، ينبني على المشاركة لا الانسحاب.

نحتاج إلى خطاب عقلاني جديد، يُفرّق بين الشك المشروع وبين التحقير، بين الإحساس بالخيبة وبين تبرير الكراهية، بين الصدع بالحق وبين تعميم الباطل.
المغرب لا يحتاج لمن يُصفّق لكل شيء، ولا لمن يُحطّم كل شيء. بل يحتاج إلى من يُفكر، يُسائل، ويُشارك؛ التبخيس لا يُصلح وطنًا، والنقد الذاتي هو البداية الحقيقية لأي مشروع جماعي للنهضة.
فلنُحيِ فينا روح النقد البنّاء، قبل أن يُطفئ التبخيس جذوة الأمل.

0 تعليقات الزوار

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الموقع

اترك تعليقاً