هبة بريس – عبد اللطيف بركة
في لحظة فارقة من الدينامية الاجتماعية التي يعيشها المغرب، برز “جيل زد 212” كفاعل جديد في المشهد الاحتجاجي، يقوده شباب رقميون دون انتماء تنظيمي أو أيديولوجي، مستندين فقط إلى أدوات التواصل الافتراضي، وروح التمرد على واقع اجتماعي متأزم.
انطلقت الاحتجاجات بمطالب مشروعة تمسّ الحق في الصحة والتعليم، لكنها سرعان ما وُوجهت بتعقيدات ميدانية ومخاطر انزلاقها نحو الفوضى، خاصة بعد أحداث دامية شهدتها عدد من الجهات كان اخطرها ما شهدته مدن بجهة سوس ماسة.
– اختراق تخريبي يُربك الحراك ويشوّه مطالبه
رغم سلمية الحراك في بدايته، إلا أن الأيام الأخيرة كشفت عن محاولات تخريبية لسرقة الاحتجاج، وجرّه نحو مواجهات عنيفة. وقد سجلت جهة سوس ماسة، وبالضبط مدينة القليعة، أحداثًا دامية بعدما أقدمت مجموعة على الهجوم على مركز للدرك الملكي، مما أدى إلى مقتل شابين وإصابة آخرين برصاص أُطلق أثناء صدّ الهجوم.
رافق هذه الأحداث تخريب واسع للممتلكات العامة والخاصة، شمل سيارات ومقرات ومحلات و ابناك ، الأمر الذي أثار موجة استنكار، وأعاد النقاش إلى ضرورة التمييز بين الحراك السلمي والمطالب الاجتماعية المشروعة، وبين الأعمال الإجرامية المدفوعة بأجندات غير واضحة. وقد أكدت فعاليات من داخل الحراك رفضها القاطع للعنف، فيما شددت السلطات على أن هناك “عناصر منحرفة” تحاول الركوب على الاحتجاج لإحداث الفوضى.
– من الاحتجاج الرقمي إلى الحراك الميداني
انطلقت شرارة “جيل زد 212” من دعوة رقمية على منصة “ديسكورد”، للتظاهر يومي 27 و28 شتنبر المنصرم، للمطالبة بالحق في التعليم والصحة. سرعان ما تحولت هذه الدعوة إلى واقع ميداني، حيث خرجت مسيرات صغيرة في البداية، ثم اتسعت رقعتها إلى أحياء شعبية وعدة مدن خارج العاصمة الرباط والدار البيضاء، لتتحول إلى احتجاجات يومية مستمرة بمدن اخرى.
ورغم أن البطالة في المغرب بلغت نسباً مقلقة، إلا أن الحراك لم يرفع شعارات تطالب بالشغل، ما يبرز الطابع الاجتماعي-النوعي لهذا الجيل، الذي يسعى إلى إعادة الاعتبار للحقوق الأساسية، دون التأطر في أطر سياسية تقليدية.
– جيل جديد بمنهج غير مألوف
“جيل زد” يمثل حوالي 26% من السكان، وهو جيل نشأ في ظل العهد الجديد للملك محمد السادس، ويتميّز بارتباطه العميق بالتكنولوجيا، وقدرته على التعبئة والتأثير دون الحاجة إلى تنظيمات. لا يملك قيادة معروفة، ولا يتحدث بلسان حزب أو نقابة، بل يستعمل الوسائط الرقمية كأدوات نضال وتواصل.
يشير محللون ل ” هبة بريس” أن جيل زد هو “منتوج خالص للأنترنيت”، وأن أعضاءه هم نفس الفئة التي قادت العام الماضي حملة الهجرة الرقمية الجماعية نحو سبتة، ويستخدمون اليوم “ديسكورد” بدلاً من “فايسبوك” أو “تويتر” لإخفاء هويتهم والتنسيق فيما بينهم.
– رد حكومي محتشم وتواصل متأخر
التفاعل الرسمي مع الحراك اتسم بالتكتم في البداية، حيث تجاهلت وسائل الإعلام العمومية تغطية الأحداث، بينما نشطت حسابات ناطقة باسم السلطة على فيسبوك ويوتيوب في الدفاع عن السياسات الحكومية أو اتهام المحتجين بتأثرهم بأجندات أجنبية.
لاحقاً، بدأت الحكومة تخرج عن صمتها بتصريحات وبلاغات متفرقة. في يوم الثلاثاء، عبّر بلاغ للأغلبية الحكومية عن “تفهمه لمطالب الشباب” واستعداده للحوار، مع الإشارة إلى مواصلة تنفيذ الورش الملكي الخاص بالحماية الاجتماعية. كما أعلن عن مراجعة تعويضات طلبة الطب والنظام الأساسي للأطباء الداخليين.
وخرجت وزيرة الإسكان فاطمة الزهراء المنصوري بتصريح مثير قالت فيه: “جيل زد ما يخلعوناش… لكن الاحتجاجات تؤكد أننا ما نجحناش”.
– المعارضة: حضور محتشم وتأثير محدود
رغم تحميلها الحكومة مسؤولية الأزمة، لم تستطع المعارضة البرلمانية أن تؤثر بشكل فعلي في مجريات الحراك. مطالبتها بالحوار والإنصات لم تجد صدى واسعا في الشارع، فيما توالت دعوات من بعض الأصوات داخلها لإقالة الحكومة. من جهتها، واصلت الجمعيات الحقوقية تعبئتها للدفاع عن حرية التظاهر ورفض الانزلاقات الأمنية.
– الملكية خارج دائرة النقد
من اللافت أن “جيل زد” لم يوجّه سهامه إلى المؤسسة الملكية، بل أكد في أكثر من بلاغ أن مشكلته “مع الحكومة لا مع النظام”. واستشهد بخطب ملكية حول العدالة الاجتماعية والحق في الصحة والتعليم، داعياً إلى عدم الخلط بين الوطن والسياسات الفاشلة.
مع ذلك، تتصاعد في وسائل التواصل دعوات موجهة إلى الملك محمد السادس للتدخل، باعتباره الضامن لاستقرار الدولة والمؤسسات، أمام ما يعتبره كثيرون عجزاً حكومياً صارخاً.
– ما السيناريوهات المحتملة؟
تحليل التطورات الجارية يشير إلى احتمالين رئيسيين: أولها اعتماد المقاربة الأمنية والقضائية لاحتواء الاحتجاجات بسرعة، كما بدأت فعلاً باعتقال مئات المتظاهرين وفتح تحقيقات.
ثانيهما يتمثل في إعادة ترتيب المشهد السياسي، في حال استمرار الضغط الشعبي، رغم أن ذلك غير وارد الان بحكم أن الاستحقاقات المقبلة لا تفصلنا بها سوى سنة واحدة.
لكن المعضلة الأساسية، كما يشير العديد من الخبراء، تكمن في أن المشاكل التي فجّرت الحراك هيكلية ومعقدة، ولا يمكن حلّها بقرارات ظرفية. فالتعليم والصحة في المغرب يعانيان من خلل مزمن، لا سيما مع تغوّل القطاع الخاص ومحدودية الخدمات العمومية.
– جيل لا يؤمن بالصمت… ولا يخشى المواجهة
يضع حراك “جيل زد 212” المغرب أمام تحدٍّ غير مسبوق: جيل رقمي لا ينتمي إلى الماضي السياسي، ولا يثق في الأحزاب في وضعها الحالي، لكنه مسلّح بالوعي والغضب والقدرة على التعبئة.
ما يجري اليوم ليس مجرّد احتجاج عابر، بل بداية لوعي اجتماعي جديد، يطالب الدولة بمراجعة عقدها الاجتماعي، وإعادة الاعتبار للعدالة الاجتماعية، في بلد تتسع فيه الهوة بين الخطاب الرسمي وواقع المواطن.
يبقى السؤال مفتوحاً: هل تنجح الدولة في التقاط الإشارة قبل أن تفلت الأمور؟ أم أن المقاربة الأمنية ستكون، مرة أخرى، الجواب السهل لأزمة عميقة متجددة؟،
0 تعليقات الزوار