هبة بريس-عبد اللطيف بركة
عندما يحل اليوم العالمي لمكافحة الفساد، الذي يوافق 9 دجنبر من كل سنة، والمغرب يواصل مواجهة واحدة من أعقد المعضلات المرتبطة بالتنمية وجودة الخدمات العمومية. فالفساد الإداري والمالي لم يعد مجرّد حالات معزولة، بل شبكة من الممارسات التي ترهق ميزانية الدولة، وتُضعف الثقة في المؤسسات، وتؤخر مشاريع الاستثمار والإصلاح.
من الرشوة الصغيرة في الإدارات إلى الاختلالات الكبرى في الصفقات العمومية، ومن تضارب المصالح إلى الإثراء غير المشروع، تتراوح أشكال الفساد بين ما هو ظاهر للرأي العام وما يحتاج إلى تحقيقات معمّقة. وتشير تقارير رسمية ومدنية إلى أن القطاعات الأكثر عرضة للفساد تهمّ مجالات التعمير، التسيير الإداري، الصفقات، والموارد البشرية.
ورغم حدة هذه التحديات، أرسى المغرب خلال العقد الأخير منظومة قانونية ومؤسساتية غير مسبوقة. فقد تم تعزيز صلاحيات الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها بموجب القانون 46.19، ومنحها دوراً محورياً في التتبع والتقييم واقتراح السياسات. كما تبنّى المغرب اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، ما يفرض عليه التزامًا دوليًا في مجالات الوقاية، حماية المبلغين، واسترجاع الأموال.
ومن الآليات القانونية البارزة أيضًا: التصريح الإجباري بالممتلكات لعدد من المسؤولين والمنتخبين، تعزيز دور المجلس الأعلى للحسابات في مراقبة تدبير المال العام، وتحديث الترسانة الجنائية المتعلقة بالرشوة واختلاس الأموال العمومية. كما جرى إدراج مقتضيات خاصة بحماية المبلغين والشهود، وإن بقيت فعالية هذه الحماية محل انتقاد بالنظر إلى محدودية تنفيذها على أرض الواقع.
إلا أن الإطار القانوني، رغم أهميته، لا يزال يعاني من ثغرات واضحة. ففعالية المتابعة القضائية في ملفات الفساد الكبرى تبقى دون مستوى الانتظارات، كما أن بعض التعديلات المقترحة في قانون المسطرة الجنائية أثارت جدلاً واسعًا بسبب تخوفات من تقليص دور المواطنين والجمعيات في تقديم الشكايات المتعلقة بالاختلاس وسوء تدبير المال العام. إضافة إلى ذلك، لا تزال الصفقات العمومية، رغم الرقمنة وتحديث المساطر، مجالًا خصبًا للاختلالات بسبب غياب الشفافية الكاملة في مراحل التقييم والانتقاء.
ومع ذلك، فإن مسار مكافحة الفساد في المغرب سجّل خطوات إيجابية يمكن البناء عليها. فقد تطورت الرقابة الرقمية للصفقات، وتزايد التعاون بين المؤسسات الدستورية والمجتمع المدني، كما أصبح النقاش العمومي أكثر جرأة في تناول ملفات الرشوة وتعارض المصالح. وتظهر تقارير مكاتب التدقيق أن الوعي المؤسساتي بخطورة الفساد بدأ يتعزز، ولو بوتيرة بطيئة.
في هذا السياق، يبرز اليوم العالمي لمكافحة الفساد كفرصة لإعادة تقييم الإنجازات ورصد مكامن القصور. فالمعركة ضد الفساد ليست تشريعات فقط، بل إرادة سياسية، شفافية في المعلومة، حماية حقيقية للمبلغين، وقضاء مستقل قادر على البت السريع والشفاف في الملفات المالية الكبرى. كما أن دور الإعلام والمجتمع المدني يظل مركزياً في إنعاش ثقافة المساءلة، وتوجيه الرأي العام نحو أهمية ربط المسؤولية بالمحاسبة.
إن مكافحة الفساد ليست معركة قانونية فحسب، بل مشروع إصلاحي شامل يهدف إلى تقوية الثقة بين المواطن والمؤسسة، وتحسين جودة الخدمات، وخلق بيئة اقتصادية شفافة وجاذبة للاستثمار. وبينما يعيد العالم إحياء ذكرى 9 دجنبر، تبدو الحاجة ملحة إلى تسريع الإصلاحات، وتفعيل القوانين، وتجاوز الهوة بين النصوص القانونية والواقع العملي، حتى تصبح النزاهة ثقافة يومية لا مجرد شعار مؤسساتي.

0 تعليقات الزوار