الحركات اللامركزية بين الوعي والضياع: من أمريكا إلى المغرب

حجم الخط:

هبة بريس- عبد اللطيف بركة

في العالم الذي يتغير بسرعة أكبر من قدرة الأنظمة على الفهم، تتشكل ظواهر احتجاجية جديدة تخرج عن المألوف، وتكسر قوالب التنظيم السياسي والاجتماعي التقليدي. لم يعد الشارع حكرًا على النقابات، ولا الخطاب الثوري امتيازًا للأحزاب. من نيويورك إلى باريس، ومن تونس إلى الدار البيضاء، بدأت ترتسم ملامح جيل غاضب، متصل، لكن غير مؤطّر، يرفض الزعامة، ويتحدث بصوت جماعي لا يسعى للقيادة، بل للانفجار. في هذا السياق، تندرج ظاهرة الحركات اللامركزية، التي تبدو في ظاهرها كأنها تعبير نقي عن الوعي الشعبي، لكنها في باطنها تخفي الكثير من الضياع والارتباك.

لا يمكن قراءة حركة GZ212 في المغرب خارج هذا الإطار العالمي. فهي لم تنشأ من رحم تنظيم، ولا خرجت من صلب تيار فكري أو سياسي، بل ولدت من تفاعل لحظي بين الغضب الشعبي والفضاء الرقمي. تيك توك، ديسكورد، تليغرام… كلها تحولت من منصات ترفيهية إلى ساحات نضال. فجأة، أصبح شاب في حي شعبي يعبّر عن نفسه بكاميرا هاتفه، ويجذب آلاف المتابعين دون أن يحمل بطاقة انخراط في أي تنظيم. هذه الحركة ليست الأولى من نوعها، لكنها تحمل خصوصية مغربية مركبة: غضب مزمن في مجتمع يعيش ضغوطًا اقتصادية واجتماعية خانقة، وشعور واسع بانسداد الأفق، خاصة لدى فئة الشباب.

لكن هل يكفي الغضب لصنع التغيير؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي يجب طرحه، بعيدًا عن الحماس اللحظي أو الإدانة السطحية. تجربة حركة Occupy Wall Street الأمريكية قبل أكثر من عقد تعطينا مؤشرًا مهمًا. هناك أيضًا خرج آلاف الشباب، استنكروا الظلم الاقتصادي، ورفعوا شعارات عابرة للحدود. لكن، رغم الزخم، انطفأت الحركة سريعًا. السبب؟ لم تكن هناك قيادة، ولا برنامج واضح، ولا أدوات تفاوض. كان الحضور رمزيًا، لكنه لم يتحول إلى نفوذ سياسي. الشرارة اشتعلت، لكن لم تجد من يُمسك بالنار ويوجهها.

في المغرب، تبدو حركة GZ212 حاليًا في مرحلة مماثلة. طاقة احتجاجية هائلة، لكنها غير مؤطرة. خطاب عاطفي صادق، لكنه يفتقد إلى البوصلة. هناك من يطالب بالتعليم المجاني، وآخر بالصحة، وثالث بالشغل، ورابع بمحاربة الفساد… كلها مطالب مشروعة، لكن دون ترتيب أولويات، ولا تحديد أدوات، ولا صياغة مشروع يمكن أن يُفاوض عليه أو يُدافع عنه في المؤسسات. وهذا ما يجعل هذه الحركات معرضة دومًا للانقسام، أو الاختراق، أو التحلل التلقائي. فالاحتجاج الذي لا يجد لنفسه شكلًا من أشكال المأسسة، يتحول مع الوقت إلى مجرد صدى.

اللاّمركزية في ذاتها ليست ضعفًا، بل هي تعبير عن رفض مشروع لمنطق قديم في التنظيم. جيل اليوم لا يثق في الأحزاب، ولا في النقابات، ولا في الزعامات التي يعتبرها جزءًا من المشكلة. لكنه في المقابل، لم يصنع بديله بعد. ما زال في طور التفاعل الغريزي مع الأزمات، دون أن يبلور فكرًا استراتيجيًا أو نموذجًا تنظيميًا جديدًا. وهنا تكمن المفارقة: هذا الجيل الذي يرفض النخب، لم يُنتج نخبه بعد. يرفض الوصاية، لكنه لم يبنِ أدوات السيادة على مصيره. يملك صوتًا قويًا، لكنه لا يعرف بعد كيف يحوله إلى فعل مُغيِّر.

ما يزيد الصورة تعقيدًا في السياق المغربي هو هشاشة الوسائط التقليدية. المؤسسات السياسية تفقد شرعيتها لدى الشارع، والنقاش العمومي يعاني من سطحية مزمنة، والنخب الفكرية تراجعت إلى الظل. كل هذا يجعل من الحركات اللامركزية أشبه ببديل مؤقت، لا يملأ الفراغ فعليًا، بل يكشفه. ولذلك، فإن مستقبل GZ212 – كما هو حال نظيراتها في العالم – يظل مرهونًا بقدرتها على التطور من حركة “رفض” إلى قوة “اقتراح”. وهذا لن يحدث إلا إذا تخلّت عن فكرة أن التنظيم خيانة، وأن القيادة شكل من أشكال التسلط. على العكس، التنظيم الذكي، والقيادة الجماعية الواعية، هما ما يحول الاحتجاج من تنفيس مؤقت إلى مسار تغيير.

إننا أمام لحظة مفصلية في علاقة الشباب المغربي بالسياسة. هذه الحركات تقول شيئًا عميقًا، حتى لو لم تعبّر عنه بلغة النخبة: هناك أزمة ثقة، وهناك انسداد أفق، وهناك عطش لمعنى جديد للمواطنة. لكن هذه الرسائل تحتاج لمن يُترجمها. إن لم يُترجمها الفاعلون، فستبقى مجرد ضجيج رقمي. وإن لم تجد من يحتضنها، فقد تُختطف، أو تُشوّه، أو تنطفئ بصمت.

في النهاية، الحركات اللامركزية ليست خطرًا في حد ذاتها، لكنها قد تُصبح خطرًا إذا لم تجد طريقها إلى النضج. GZ212 هي جرس إنذار، وصوت صادق في زمن مليء بالزيف، لكن الصدق وحده لا يصنع التغيير. نحتاج إلى وعي يُبنى، لا فقط يُصرخ به. نحتاج إلى مشروع، لا مجرد موجة. وإلا فإن الوعي سيبقى حبيس شاشات، والضياع سيواصل ابتلاع كل أمل.

0 تعليقات الزوار

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الموقع

اترك تعليقاً